التوطئة
باسم الشعب التونسي،
نحن، مجموعة من الشعب التونسي، أعضاءَ حركة تونسنا،
إيمانًا بأن الإنسان هو غاية كل تشريع ومصدر كل سيادة، وأن كرامته وحريته أساس وجوده وشرط تقدمه،
وإقرارًا بأن تونس لم تكن يومًا أرضًا هامدة، بل كانت منذ فجر التاريخ فضاءً حضاريًّا حيًّا. فقد نشأت فيها الثقافة القفصية القادمة من قلب إفريقيا نحو شمالها، واستقرّت في جنوب تونس الحالية، فأكّدت أفريقيّة تونس وغرست بذور التكيّف والإبداع الإنساني.
ومن تلك الجذور، تبلورت عبر القرون نواة الشعب الأمازيغي الذي تداخل مع الامتداد الليبي والنوبي والفرعوني، قبل أن ينخرط في شبكات المتوسط عبر الهجرات الفينيقية وظهور الوجود البونيقي المبكر.
وفي هذا المناخ، استقرت أيضًا الهجرات اليهودية القديمة، لتضيف عنصرًا دينيًا وثقافيًا أصيلًا في النسيج التونسي. ومن هذا التراكم وُلدت قرطاج العظيمة بدستورها البحري، التي بسطت نفوذها التجاري والثقافي على ضفتي المتوسط. ثم نهضت فيها المملكة النوميدية التي شكّلت أحد أعمدة شمال إفريقيا القديمة.
ثم تعاقبت القوى الوافدة: الرومان بما حملوه من قانون وعمران وزراعة، ثم الوندال والبيزنطيون الذين جلبوا عناصر من ثقافة المتوسط الشرقية والغربية. وفي هذه المرحلة المبكرة، دخلت المسيحية وانتشرت في إفريقية الرومانية، فصارت تونس مركزًا دينيًا وفكريًا بارزًا.
وبعد الدخول العربي الإسلامي، أصبحت تونس جزءًا من الحضارة الإسلامية الكبرى، مركزًا علميًا وتجاريًا، ومجالًا لتفاعل المذاهب والمدارس الفكرية؛ حيث عرفت في العهد الفاطمي بروز المذهب الشيعي الإسماعيلي إلى جانب المذهب المالكي السني الذي ترسّخ لاحقًا، ووجود الإباضية في الجنوب، بما عكس تعددية المعتقدات داخل الدين الواحد وثراء الحياة الفكرية والدينية في إفريقية.
وفي العهد الوسيط، تفاعلت تونس مع المغرب الأقصى في ظل المرابطين والموحدين والمرينيين، فزاد هذا من غنى الهوية المشتركة لشمال إفريقيا. كما عرفت البلاد الهجرات الأندلسية بعد سقوط الأندلس، التي أضافت للفنون والعمران والزراعة والحِرَف نكهة حضارية مميّزة.
ثم جاء العثمانيون الذين رسخوا مركزية الدولة الحديثة المبكرة، وربطوا تونس بمشرق المتوسط، وصولًا إلى الحماية الفرنسية التي فرضت استعمارًا مباشرًا، لكنها أدخلت التعليم العصري والإدارة الحديثة، وأطلقت في المقابل الحركة الوطنية التي قادت إلى الاستقلال.
وهكذا، وعلى مدى آلاف السنين، امتصّت تونس جميع هذه الروافد: الإفريقية، والأمازيغية، والنوميدية، والليبية، والفرعونية، والنوبية، والمتوسطية، والبونيقية، واليهودية، والقرطاجية، والرومانية، والمسيحية، والعربية، والإسلامية السنية والشيعية والإباضية، والأندلسية، والمغربية العريقة، والعثمانية، والأوروبية، وهضمتها جميعًا في ذاتها. فلم تكن تونس مجرّد متلقٍّ، بل كانت دائمًا قادرة على الإبداع والتجديد، وعلى تحويل كل هذه الروافد إلى عناصر في صرح هويتها الوطنية.
ومن هذا التفاعل التاريخي العريق تشكّلت الخصوصية التونسية:
هوية وطنية متفرّدة،
أفريقية الجذور،
أمازيغية العمق والثقافة،
قرطاجية الإرث،
متشبعة بالموروث الحضاري الإسلامي،
متوسطية الانفتاح،
متعددة الألسن والأديان والمعتقدات،
غنية بتنوعها الثقافي،
حديثة في مؤسساتها،
إنسانية في قيمها.
واعتزازًا بما حققته الأجيال السابقة من نضالات وتضحيات من أجل الاستقلال، والحرية، والديمقراطية،
وتأكيدًا على أن الدولة العصرية لا تقوم إلا على المدنية وحيادها التام تجاه المعتقدات والأديان والأعراق والجهويات، بحيث يبقى الدين والمعتقد شأنًا شخصيًا، وتحمي الدولة حرية المعتقد والضمير، وتكفل المساواة الكاملة بين جميع المواطنين والمواطنات دون أي امتياز أو تمييز،
واعترافًا بأن كرامة الإنسان لا تتجزأ، وأن جميع التونسيين والتونسيات متساوون أمام القانون مهما اختلفت دياناتهم، أعراقهم، لغاتهم، أصولهم، أشكالهم، ألوانهم، مظهرهم، إعاقاتهم، أو جنسهم ذكورًا وإناثًا، فلا فرق بينهم إلا بما يضمنه القانون من حقوق وواجبات،
ووعيًا بأن التداخل بين الدين والسياسة، والقومية الضيقة، والجهوية، وأشكال التمييز كانت عبر التاريخ من أكبر أسباب الصراعات والانقسامات والمظالم،
فإننا نؤسس لدولة تفصل بين مجالات الإيمان الشخصي والقرار العام، وتمنع كل أشكال التمييز والتفرقة، لتضمن لكل فرد أن يعيش قناعاته بحرية، وتحول دون أي سلطة تستخدم الدين أو القومية أو الجهة أو العقيدة وسيلة للهيمنة أو الإقصاء.
واقتناعًا بأن الديمقراطية التشاركية، وسيادة القانون، وتداول السلطة السلمي، هي السبيل لضمان استقرار الدولة ووحدة الشعب،
وحرصًا على أن تكون تونس جزءًا فاعلًا في المجتمع الدولي، متشبثة بمبادئ السلم، والتعاون، واحترام حقوق الإنسان كما وردت في المواثيق الدولية، وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين، والميثاق الأفريقي،
وتطلعًا إلى بناء اقتصاد عادل ومستدام يوازن بين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، ويراعي حقوق الأجيال القادمة في بيئة سليمة وموارد طبيعية محمية،
وإيمانًا بأن الثقافة، والعلم، والفكر الحر هي الدعائم الأساسية لبناء مجتمع متوازن، متفتح، ومبدع،
وإقرارًا بواجب الدولة في حماية البيئة والطبيعة، وصون مواردها، ورعاية حقوق الحيوان والنبات، بما يضمن انسجام الإنسان مع محيطه،
وتقديرًا للدور المركزي للشباب والمرأة، ولواجب الدولة في تمكينهما الكامل وإزالة كل أشكال التمييز أو الإقصاء،
ووعيًا بضرورة المساهمة في حماية المناخ، والحفاظ على البيئة سليمةً بما يضمن استدامة مواردنا الطبيعية واستمرارية الحياة الآمنة للأجيال القادمة،
وتحقيقًا لإرادة الشعب في أن يكون صانعًا لتاريخه، مؤمنًا بأن العلم والعمل والإبداع قيم إنسانية سامية، ساعيًا إلى الريادة، متطلعًا إلى الإضافة الحضارية، وذلك على أساس استقلال القرار الوطني، والسلم العالمية، والتضامن الإنساني،
وتأكيدًا أن وحدة الشعب التونسي تقوم على قيم المواطنة، والتنوع، والعدالة، والتضامن، لا على أي انتماء ديني، أو قومي، أو جهوي، أو لغوي، أو شكلي،
فإننا، باسم الشعب التونسي، نعلن هذا الدستور الحضاري الإنساني:
دستورًا للحرية والمساواة والكرامة،
ميثاقًا للوطن المشترك الذي يسع جميع أبنائه وبناته دون استثناء،
وضمانةً لدولة مدنية ديمقراطية علمانية،
تحمي الحقوق، تحترم الاختلاف، تمنع التمييز بكل أشكاله، وتصون الإنسان والبيئة والطبيعة والحيوان، وتبني المستقبل.
